سورة الصافات - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد المحبة لهداهم والحزن على ضلالهم، والأسف على غيهم ومحالهم، وكان الضلال مع العقل أولاً، ثم مع وجود الرسل الذين هم من الصدق والمعجزات والأمور الملجئة إلى الهدى ثانياً كالمحال، سلاه سبحانه بقوله على سبيل التأكيد لزيادة التحقيق: {ولقد ضل قبلهم} أي قبل من يدعوهم في جميع الزمان الذي تقدمهم {أكثر الأولين} بحيث إنه لم يمض قرن بعد آدم عليه السلام إلا وكله أو جله ضلال.
ولما كان ربما ظن أنه لعدم الرسل، نفى ذلك بقوله مؤكداً لنحو ذلك: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة التي توجب الإتيان بما لا ريب فيه من البيان {فيهم منذرين} أي فأنذروهم بأس الله وبينوا لهم أحسن البيان، ومع ذلك فغلب عليهم الضلال، وعناد أهل الحق بالمحال، حتى أهلكهم الله بما له من شديد المجال، وهو معنى قوله: {فانظر} أي فتسبب عن الإرسال أنا فعلنا في إهلاكهم من العجائب ما يستحق التعجيب به والتحذير من مثله بأن يقال لمن تخلف عنهم: انظر {كيف} ولما كان ذلك عادة مستمرة لم تختلف أصلاً قال: {كان عاقبة} أي آخر امر {المنذرين} أي في إنا أهلكناهم لتكذيبهم، فاصبر على الشدائد كما صبروا، واستمر على الدعاء بالبشارة والنذارة حتى يأتيك أمر الله.
ولما أفهم الحكم على الأكثر بالضلال أن الأقل على غير حالهم، نبه على حال الطائعين بقوله مستثنياً من ضمير المنذرين: {إلا عباد الله} أي الذين استخلصهم سبحانه بما له من صفات الكمال، فاستحقوا الإضافة إلى اسمه الأعظم {المخلصين} أي الذين أخلصهم له فأخلصوا هم أعمالهم فلم يجعلوا فيها شوباً لغيره.
ولما كان مقصود السورة التنزيه الذي هو الإبعاد عن النقائص، ولذلك كان أنسب الأشياء الإقسام أولها بالملائكة هم أنزه الخلق، وكان أعلى الخلق من جرد نفسه عن الحظوظ بما يؤتيه الله من المجاهدات والمنازلات والمعالجات حتى يلحق بهم فيجوز مع فضلهم معالي الجهاد، فكان أحق الأنبياء بالذكر من كان أكثر تجريداً لنفسه من الشواغل سيراً إلى مولاه وتعريجاً عن كل ما سواه، وكان الأب الثاني من أحقهم بذلك لأنه تجرد في الجهاد بالدعاء إلى الله ألف عام ثم تجرد عن كل شيء على ظهر الماء بين الأرض والسماء، فقال تعالى مؤكداً لما تقدم من أنه دعا إلى التأكيد من أن مكثه في قومه المدة الطويلة مبعد لأن يكونوا وافقوه ومالوا معه وتابعوه، ولأن فعل العرب في التكذيب مع ترادف المعجزات وتواتر العظات عمل من هو مكذب بوقوع النصرة للمرسلين، والعذاب للمكذبين، عطفاً على تقديره: فقاسى الرسل من الشدائد ما لا تسعه الأوراق، وجاهدوهم بأنفسهم والتضرع إلى الله تعالى في أمرهم: {ولقد نادانا} لما لنا من العظمة {نوح} بقوله: {رب إني مغلوب فانتصر} [القمر: 10] ونحوه مما أخبر الله عنه به بعد أمور عظيمة لقيها منهم من الكروب، والشدائد والخطوب، لنكشف عنه ما أعياه من أمرهم.
ولما أغنت هذه الجملة عن شرح القصة وتطويلها، وكان قد تسبب عن دعائه إجابته، قال بالتأكيد بالاسمية والإشارة إلى القسم والأداة الجامعة لكل مدح وصيغة العظمة إلى أن هول عذابهم وعظم مصابهم بلغ إلى أنه مع شهرته لا يكاد يصدق، فهو يحتاج إلى اجتهاد كبير وشدة اعتناء، فكانت الإجابة إجابة من يفعل ذلك وإن كانت الإفعال بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء، لا تحتاج إلى غير مطلق الإرادة: {فلنعم المجيبون} أي كنا بما لنا من العظمة له ولغيره ممن كان نعم المجيب لنا، هذه صفتنا لا تغير لها.


ولما كان معنى هذا: فأجبناه إجابة هي النهاية في استحقاق على الممادح من إيصاله إلى مراده من حمله وحمل من آمن به والانتقام ممن كذبه كما هي عادتنا دائماً، عطف عليه قوله: {ونجيناه} أي بما لنا من العظمة {وأهله} أي الذين وافقوه في الدين {من الكرب العظيم} وهو الأذى من الغرق {وجعلنا ذريته هم} أي خاصة {الباقين} لأن جميع أهل الأرض غرقوا فلم يبق منهم أحد أصلاً، وأهل السفينة لم يعقب منهم أحد غير أولاده، فأثبناه على نزاهته إن كان هو الأب الثاني، فالعرب والعجم أولاد سام، والسودان أولاد حام، والترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج أولاد يافث، فكل من تبع سنته في الخير كان له مثل أجره.
ولما ذكر لأنه بارك في نسله، أعلم أنه أدام ذكره بالخير في أهله فقال: {وتركنا عليه} أي ثناء حسناً، لكنه حذف المفعول وجعله لازماً، فصار المعنى: أوقعنا عليه الترك بشيء هو من عظمته وحسن ذكره بحيث يعز وصفه {في الآخرين} أي كل من تأخر عن زمانه إلى يوم الدين. ولما كان قد كتب الله في القدم سلامته من كل سوء على كثرة الأعداء وطول الإقامة فيهم وشدة الخلاف قال تعالى مستأنفاً مادحاً: {سلام} أي عظيم {على نوح} من كل حي من الجن والأنس والملائكة لسلام الله عليه. ولما كان لسان جميع أهل الأرض في زمانه عليه السلام واحداً، فكانوا كلهم قومه، ولم يكن في زمانه نبي، فكانت نبوته قطب دائرة ذلك الوقت، فكان رسالته عامة لأهله، وكان غير الناس من الخلق لهم تبعاً، خصه في السلام بأن قال: {في العالمين} أي مذكور فيهم كلهم لفظاً ومعنى يسلم عليه دائماً إلى أن تقوم الساعة، وخصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه أرسل إلى جميع الخلق مع اختلاف الألسنة ومع استمرار الرسالة أبد الآباد، وكون شريعته ناسخة غير منسوخة، وكون جميع الخلق في القيامة تحت لوائه، فهناك يظهر تمام ما أوتيه من عموم البعثة إلى ما ظهر منه في الدنيا.
ولما كان التقدير: فعلنا به ذلك لإحسانه، وكان الضالون ينكرون أن تنجو الدعاء إلى الله وأتباعهم منهم، أخبر في سياق التأكيد أنه يفعل بكل محسن ما فعل به فقال {إنا} أي على عظمتنا {كذلك} أي مثل ذلك الجزاء بالذكر الحسن والنجاة من كل سوء {نجزي المحسنين} أي الذين يتجردون من الظلمات النفسانية إلى الأنوار الملكية بحيث لا يغفلون عن المعبود، ولا ينفكون لحظة عن الشهود.
ولما أفهمت هذه الجملة- ولا بد- إحسانه إلى المحسن، علل ما أفهمته بقوله: مؤكداً إظهاراً للإقبال عليه بأن ذكره مما يرغب فيه، وتكذيباً لمن كذبه: {إنه من عبادنا} أي الذين هم أهل لأن نضيفهم إلى مقام عظمتنا {المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف، المتمكنين فيه، فعلم أن الإيمان هو المراد الأقصى من الإنسان لأنه علل الإنجاء بالإحسان والإحسان بالبيان، ولما أفهم تخصيص ذريته بالبقاء إهلاك غيرهم، وقدم ما هو أهل له من مدحه اهتماماً به وترغيباً في مثله، أخبر عن أعدائه بأنه أوقع بهم لأنهم لم يتحلوا بما كان سبب سعادته من الإيمان بقوله: مشيراً إلى العظمة التي أوجدها سبحانه في إغراقهم بأداة التراخي: {ثم أغرقنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقوم لها شيء {الآخرين} أي الذي غايروه في الأقوال والأفعال فاستحقوا أضداد أفعالنا معه وهو أهل الأرض كلهم غير أهل السفينة وكلهم قومه كما هو ظاهر الآيات إذا تؤمل تعبيرها عن الدعوة والإغراق ودعائه عليه السلام عليهم، وظاهر ما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يقولون: «ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض» وإنما كانوا قوماً لا أكثر، لأنهم كانوا على لسان واحد قبل بلبلة الألسن باتفاق أهل التأريخ، وذلك كما أن العرب يطلق عليهم كلهم على انتشارهم واتساع بلادهم أنهم قوم، لاجتماعهم في اللسان مع أنهم قبائل لا يحصيهم العد، ولا يجمعهم نسب واحد إلا في إسماعيل عليه السلام، وقيل فيما فوقه، فإن النسابين أجمعوا على أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام، قالوا: هو من ولد عدنان، واختلفوا في قحطان أبي اليمن وكذا ثقيف، فقيل: هما من ولد إسماعيل عليه السلام، وقيل لا، ثم من قال: إن ثقيفاً من ولد إسماعيل عليه السلام، قالوا: هو من ولد عدنان، وقال بعضهم: لا، ثم إن من ولد عدنان ربيعة ومضر، ومن دون مضر كنانة وهذيل والقارة وخزاعة وأسد وتميم ومزينة والرباب وضبة وقيس، ودون ذلك باهله وأشجع وفزارة وكنانة وقريش وخلائق، ومن دون ربيعة بكر بن وائل وغيرهم، ومن دون ذلك شيبان وعبد القيس والنمر وخلائق، ودون قحطان أبي اليمن لخم وجذام وعائلة وغسان وكندة وهمدان والأزد، ومنهم الأنصار وخلائق غير ذلك، فهؤلاء كلهم- على هذا التشعب والانتشار والاختلاف في الأديان، بل وفي بعض اللغة- يسمون أمة واحدة وقوماً لجمع اللسان لهم في أصل العربية، وبنو إسحاق ليسوا منهم بلا خلاف، مع أنهم أولاد عمهم لمخالفتهم لهم في اللسان على أنهم أقرب من قحطان وثقيف في النسب عند من قال إنهم ليسوا من ولد إسماعيل عليه السلام، وكذا بنو إسحاق عليه السلام افترقوا بافتراق اللسان فبنوا إسماعيل قوم وبنو العيص- وهم الروم- قوم وكذا سائر الأمم إنما يفرق بينهم اللسان وعموم دعوته لبني آدم عليه السلام على هذا الوجه لا يقدح في خصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الدعوة والأرسال إلى غير قومه، أما العموم فإنه أرسل إلى كل من ينوس من الإنس والملائكة والجن، وأما دعاء الأقوام فالمراد أنه أرسل إلى الموافق في اللسان والمخالف فيه، وأما غيره فما أرسل إلى من خالفه في اللسان ولا إلى غير جنسه وإن كان يندب له أنه يأمر بالمخالفين في اللسان وينهاهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير وجوب، ولو سلمنا في نوح عليه السلام أنه لم يبعث إلى جميع أهل الأرض انتقض بآدم عليه السلام فإنه نبي مرسل، كما روى ذلك الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر وأبو بكر بن أبي شيبة والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبراني في معجمه الأوسط عن أبي أمامة الباهلي وأبي ذر رضي الله عنهما وفي بعض طرق أبي ذر التصريح بالإرسال ولا يشك أحد أنه كان رسولاً إلى جميع من أدركه من أولاده، وهم جميع أهل الأرض، وكذلك نوح عليه السلام، لا يشك أحد أنه كان بعد الغرق رسولاً إلى جميع أهل السفينة كما كان قبل ذلك: وهم جميع أهل الأرض، فما قدمت من أن الخصوصية بالإرسال إلى ذوي الألسن المختلفة من جميع بني آدم، وإلى المخالف في الجنس من كل من ينوس هو المزيل للإشكال- والله الموفق.


ولما كان لإبراهيم عليه السلام من التجرد عن النعوت البشرية والعلائق النفسانية إلى الأحوال الملكية ما لم يكن لمن بينهما من النبيين من المصارحة بالمعارضة لقومه، والإبلاغ فيها بكسر الأوثان، وتوهية مذهب الكفران، والانفراد عما سوى الله في غمرات النيران، حتى عن الدعاء بقلب أو لسان فناء عن جميع الأكوان، ثم الهجرة عن الأوطان، ثم بالخروج عن الأحباب والأخوان، بوضع ابنه بكره وسريته في ذلك المكان، الذي ليس به إنس ولا جان، ثم بمعالجة ذبحه بأتم قوة وأقوى جنان، ثم ببناء البيت ذوي الأركان، قبلة للمتجردين من أهل الإيمان في كل أوان، عما سوى الملك الديان، يصفون عند كل صلاة مثل صفوف الملائكة الكرام، وكان موافقاً لنوح عليه السلام مع ما تقدم في البركة في نسله بحيث إنهم قريب نصف أهل الأرض الآن، وكان أشهر أمره في النار التي هي ضد أشهر أمر نوح عليه السلام في الماء، تلاه به فقال مؤكداً إظهاراً أيضاً لما له من الكرامة والمنزلة العالية في الإمامة، المقتضية للنشاط في الثناء عليه، المنبهة على ما ينبغي من إتمام العزم في متابعته، وتكذيباً لمن ادعى أنه ابتدع وخالف من كان قبله: {وإن من شيعته} أي الذين خالط سره سرهم ووافق أمره أمرهم، في التصلب في الدين والمصابرة للمفسدين {لإبراهيم} ثم علق بمعنى المشايعة بياناً لما كانت به المتابعة قوله على تقدير سؤال من قال: متى شايعه؟ {إذا} أي حين {جاء ربه} أي المحسن في تربيته {بقلب سليم} أي بالغ السلامة عن حب غيره، والمجيء مجاز عن الإخلاص الذي لا شائبة فيه كما أن الآتي إليك لا يكون شيء من بدنه عند غيرك، ثم أبدل من ذلك ما هو دليل عليه فقال: {إذ قال لأبيه} أي الذي هو أعظم الناس عنده وأجلهم في غينه وأعزهم لديه {وقومه} أي الذين لهم من القوة والجدود ما تهابهم به الأسود: {ماذا} أي ما الذي {تعبدون} تحقيراً لأمرهم وأمر معبوداتهم منبهاً على أنه لا علة لهم في الحقيقة تحمل على عبادتها غير مكترث بكثرتهم ولا هائب لقوتهم ولامراع لميل الطبع البشري إلى مودتهم.
ولما لوح لهم بالإنكار، صرح فقال مقدماً للمفعول تخصيصاً: {أئفكاً} أي صرفاً للحق عن وجهه إلى قفاه. ولما جعل معبوداتهم نفس الإفك، أبدل منه قوله: {آلهة} ثم حقر شأنهم بقوله: {دون الله} أي الذي لا كفوء له {تريدون} ولما كان قد غلب عليه الشهود عند تحقيره لهم، سبب عن ذلك تهديداً على فعلهم عظيماً، فقال مشيراً إلى أنه يكفي العاقل في النهي ظن العطب: {فما ظنكم} ولما كان كفران الإحسان شديداً، ذكرهم بإحسانه حافظاً لسياق التهديد بالإشارة إلى أنه يكفي في ذلك الخوف من قطع الإحسان فقال: {برب العالمين} اي الذي توحد بخلق جميع الجواهر والأعراض وتربيتهم فهو مستحق لتوحيدهم إياه في عبادتهم، أتظنون أنه لا يعذبكم وقد صرفتم ما أنعم به عليكم إلى عبادة غيره، إشارة إلى إنكار تجويز مثل هذا، وأن المقطوع به أن محسناً لا يرضى بدوام إدرار إحسانه إلى من ينسبه إلى غيره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8